لا تيأس
فبعد العسر يسر، والليل إن زادت ظلمته اقترب النور،
والمتجبر إن فاض ظلمه أذنت ساعة رحيله،
والرزق وإن تأخر فلا يمكن أن يضيع،
والله قد يجمع الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا،
والخير باق فى الأرض طالما بقى القمح والملح والورع والرحمة،
والجمال باق طالما هب النسيم وفاح الورد
وشقشقت العصافير وطلت علينا الوجوه الحسنة،
والتغيير آت طالما بقى على الأرض من يقول لا حتى ولو فى سره الدفين،
وطالما بقى الأمل فى أن الدم يمكن أن ينتصر على السيف،
وأن الشعب إن أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.
لا تيأس...
وتذكر الشاعر التركى ناظم حكمت
الذى كان ينشد من قعر زنزانته الضيقة المظلمة:
أجمل يوم لم أعشه بعد، وأروع قصيدة لم أكتبها بعد.
واعرف أن الروائى الإيطالى ألبرتو مورافيا كتب أبدع رواياته
وهو نائم على سريره لا يبرحه من فرط المرض،
والموسيقار الخالد بيتهوفن لم يعزف أعظم ألحانه إلا بعد أن أصابه الصمم،
ولم يمنع العمى طه حسين من أن يكون ما أراد مفكرا عميقا
وعميدا للأدب العربى ومناضلا ووزيرا،
ولم يستسلم العقاد لخروجه مبكرا من التعليم
بل عكف على عقله يثقفه وعلى إرادته يقويها
حتى صار «عملاق الفكر العربى الحديث»،
و لم يمنع النفى والتشرد بيرم التونسى
من أن يكون واحدا من أعظم شعراء العامية فى تاريخنا الثقافى كله،
واستغل أحمد فؤاد نجم فترة السجن
فى تعلم القراءة والكتابة فصار رديفا لبيرم.
والشاعر شارلز لامب لم يرسل أخته إلى مصحة عقلية
حين عاد ذات يوم ووجدها قد ذبحت أمها بسكين فى نوبة جنون،
بل احتضنها وجعلها تشاركه نشاطه الأدبى،
حتى خرجت من جنونها، وصار هو شاعرا عظيما.
لا تيأس...
فالرمد الربيعى الذى أصاب نجيب محفوظ
وحرمه من القراءة والكتابة لستة أشهر من السنة
لم يمنعه من أن يواصل عطاءه
حتى صار الأغزر والأعمق فى مسيرة الرواية العربية
واحدا من أعظم أدباء العالم بأسره،
ولما طعن وشلت يمينه عاد ليكتب من جديد،
خطا ركيكا، ككتابة الأطفال، لكنه أبدع به »أحلام فترة النقاهة«
فلما عجز تماما عن الكتابة،
كان يبدع مقطوعات هذا العمل الخالد فى ذهنه أولا، ويحفظه، ثم يمليه،
وهكذا حتى فاضت روحه دون أن ينقطع عطاؤه.
وداء النقرس الذى أصاب الرسام الفرنسى الشهير فرنوار
لم يمنعه من مواصلة الرسم،
بعد أن استعان بشخص كان يربط له الفرشاة فى يده.
وأعاد الأديب الروسى الكبير ليو تولستوى كتابة رائعته «الحرب والسلام»
سبع مرات على ضخامتها،
وعندما سئل اسحق نيوتن عن سر توصله إلى نظرياته العلمية العظيمة
قال: «لا أترك المسألة تغيب عن عقلى أبدا».
لا تيأس ..
ولا تعتقد أن الوقت قد انقضى وأحلامك قد غربت،
فبوسعك أن تفعل ما تريد ما دمت تتنفس،
ومهما كان حجم الظلم الذى يثقل كاهلك والقهر الذى يجثم على كتفيك
فبإمكانك أن تقيم ظهرك، وتحقق ذاتك حتى ولو غزا الشيب مفرقك.
فهاهو الفيلسوف الألمانى الشهير شوبنهور
لم ييأس من انفضاض الجمهور عنه لحساب أستاذه هيجل،
بل واصل عطاءه حتى انجذب إليه الناس، وصار عظيما مثل معلمه.
و الروائى الإنجليزى الشهير سومرست موم
لم يكتشف موهبته إلا متأخرا، وظل سنوات طويلة يعمل طبيبا،
حتى ساق له القدر أديبا كبيرا قاصده كطبيب
فخرج من عنده موقنا بأن موم لديه موهبة أدبية عالية،
فنصحه أن يترك الطب ويتفرغ للأدب،
وعمل بالنصيحة فصار هذا الروائى العبقري.
وجمال حمدان لم يستسلم للظلم الذى وقع عليه فى الجامعة،
حين تم ترقية من هو أدنى منه،
بل انسحب إلى بيته صامتا، ليواصل البحث والدرس،
ويخرج على الناس بكتبه العميقة وعمله الرائع «شخصية مصر»
ويصير فى النهاية أعظم وأشهر ممن ظلموه.
والأثرى الكبير سليم حسن تمت نقله إلى وظيفة هامشية
بعد أن كان مدير المتحف المصرى،
فوجدها فرصة ليعود إلى البحث وينتج موسوعة أثرية
ويقول فى مطلعها: «إلى الذين أرادوا أن يسيئوا إلى فأحسنوا إلي».
والأديب الأرجنتينى خورخى بورخيس كتب أعظم أعماله وهو مبعد من وظيفته،
وأبدع البارودى أعظم قصائده فى المنفى.
والعالم مكتظ بأسماء أثرياء بدءوا من الصفر،
وغيرهم أفلسوا ثم عوضوا خسارتهم وصاروا أفضل مما كانوا عليه.
لا تيأس ...
فجيش المسلمين انتصر على المشركين فى موقعة بدر
رغم أنه كان أقل عددا وعدة،
وخالد بن الوليد هزم الروم فى معركة اليرموك
بقوة أقل من عشر قوتهم،
والبطل الإغريقى ليونيداس استطاع برفقة ثلاثمائة رجل
أن يعيق تقدم جيش الفرس الجرار من ممر ترموييل حتى سقط ورفاقه
بعد أن قتلوا أضعاف عددهم، ومهدوا الطريق لبلد صغير هو اسبرطة
كى ينتصر فى النهاية على إمبراطورية الفرس القوية.
وبضعة آلاف من مقاتلى حزب الله
تمكنوا من هزيمة الجيش الإسرائيلى المتغطرس،
وقبله استطاع أطفال فلسطين أن يتصدوا للدبابات والبنادق بكومات من حجر،
ويحققوا نصرا استراتيجيا على عدوهم المدجج بالسلاح.
لا تيأس..
ولا تقنط، فرحمة الله واسعة، وجنته تسع كل الطيبين،
ومهما ثقلت الآثام فسبحانه غافر الذنب وقابل التوب،
ومهما عظمت الخطايا فلا يمكنها أن تطمر الغفران،
وليس بوسعها أن تنسينا أن الله أحن علينا من أمهاتنا،
وأنه أقرب إلينا من حبل الوريد.
دكتور عمار على حسن-المصرى اليوم