الثلاثاء، 14 أكتوبر 2014

بعد الفراق..




هذه مجرد محاولة للعلاج.. للتأقلم .. للمضي قدما فى حياة فقدت الكثير من معانيها.. مجرد محاولة للتغلب على مرارة صفعة أخرى من صفعات القدر..

الكتابة فى العموم فعل شغف و حب .. شغف بالاحداث و حب للتفاصيل.. و لكن بعض الأحداث يعجز أمامها القلم و تتحجر عندها الكلمات لتجعل من فعل الكتابة عنها فعلا قبيحا و مبتذلا!

يقولون ان كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر الا الحزن فهو يبدأ كبيرا ثم يصغر.. الا حزني عليك فهو بدأ صغيرا ثم كبر حتى أصبح أكبر من الحياة نفسها
هؤلاء بالتأكيد لم يعرفوا قدر حزني عليكي. فأنا لم اتخيل ابدا ان يصبح الحزن ظلا ملاصقا لي وخلفية ثابتة لأي احساس اخر اشعر به  الا فى الايام القليلة التى تبعت هذا اليوم المشئوم.
فحزني عليك بدأ باردا من تأثير الصدمة حتى الدموع لم تعرف طريقها الى عيني الا بعدها بساعات. عرفت..فصدمت..فعدلت من وضع شعري اولا..ثم سألت عن مكانك.."فى التلاجة" فذهبت لأراك متجردة من اى احساس او تعبير. سأبكي بعدها بيوم و لمدة شهور لا أعرف عددها كما لم أبكي من قبل. حقيقة لم اعرف قط اننى امتلك هذا المخزون من البكاء القادر على الانفجار فى اي لحظة..في عملي..أثناء نومي..وسط أحلامي..و انا فى طريقي للطبيب لمتابعة حملي الذى علمتي به قبل ان تتركيني بأيام لكنك لم تريني بعدها.. قبل ولادتي بايام.. و انا اقف لاتنصت مع عفاف على مقابلة عمر و بابا..فى سبوع سليم و قبل ولادته بيوم.. فلم يمر يوم ولا ساعة الا و انت فى بالي حقيقة لا مجازا.

يقولون ان كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر الا الحزن فهو يبدأ كبيرا ثم يصغر.. الا حزني عليك فهو بدأ صغيرا ثم كبر حتى أصبح أكبر من الحياة نفسها
ذهبت لاراك بصحبة نوني و دينا و ربما شخصا اخر على ما اذكر انه كان محمد فوجدتك كما انت هادئة مستكينة كالملاك فى هذا المكان البارد.. لم اشعر بشيء وقتها.. ربما اقنعت نفسي انك نائمة من تعب الحادثة و شوية و هتصحى.. لمست شعرك و ربت على رأسك و مشيت.
أحاول تذكر اخر مرة رأيتك فيها فأفشل فى اعادة تكوين هذه الصورة فى ذهني كل ما استطيع تذكره انك كنت تودعيننا انا و محمد و نحن فى طريقنا للعودة الى الاسكندرية.. ماذا كنت ترتدين؟ ماذا قلتي؟ هل قبلتك وقتها؟ لا اذكر و الوم نفسي على تقصيري فأمارس المزيد من جلد الذات على شيء لا يد لي فيه . ستتكرر محاولتى البائسة على مدار الاشهر التى تلت اليوم المشئوم و ستظل المحصلة النهائية صفر.

سأقف بعدها في الساحة الامامية للمستشفى امام الغرفة التى بها "التلاجة" و تزوغ عيناي ولا انطق بشيء..الحمد لله انها ماتت و انها ليست فى مستشفى اخرى كما قالوا لي..الحمد لله انها لم تكن وحدها فى مزبلة اخرى من مزابل وزارة الصحة كالتى انتقلت اليها اختاي فهى لم تكن لتتحمل هذا القدر من الاهمال و قلة النظافة.. افاجئ نفسي بهذه الفكرة المجنونة فارتاح لها و اسكت.

أتذكر اخر مكالمة قبل الحادثة بيوم و كيف ان مزاجي كان سيئا فيها من تأثير اكتئاب الحمل الذى لازمني طيلة التسعة أشهر..اتذكر جملتك "انتى بالعة فار؟" ثم اجلد نفسي لأني لم اطيل فى المكالمة ربما كنت احتفظت بصدى صوتك فى عقلي لفترة أطول.. سأبحث بعدها كالمجنونة عن سي دي الخطوبة بمجرد مغادرة محمد للمنزل و ابحث عنك فيه لعلني أسمع صوتك..فأجده و اشاهدك تبكين و تمسكين بي..فأغلق الصوت..لا لست مستعدة بعد.
ستتكرر هذه المحاولة أيضا فى سي دي الفرح و شرائط الفيديو القديمة لنا سويا و سأبكي بمجرد ان اراك تتحركين امامي ثم اغلق الصوت و الصورة بفزع بمجرد ان اتذكر صورتك الاخيرة و انتي ساكنة على طاولة باردة استعدادا للغسل..

يقولون ان كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر الا الحزن فهو يبدأ كبيرا ثم يصغر.. الا حزني عليك فهو بدأ صغيرا ثم كبر حتى أصبح أكبر من الحياة نفسها
سأرفض السفر مع البنات خلف عربية الاسعاف التى سنتقلهم الى القاهرة و اخبر عمرو باني سأبقى معك..يخبرني بأنه مش هينفع لأن التصاريح و الاوراق هتاخد وقت و مينفعش نسيب البنات لوحدهم..استسلم و اركب بجوار محمد و ننطلق الى القاهرة.

سأراك مرة أخرى فى فجر اليوم التالي حين وصلتي مع عمرو الى المستشفى..يحملوك و انا خلفهم..يخبرني تامر بأن ""ممكن بس.." فأجيبه بحزم واضح بأن "لأ". ربما كان يريد مني ان انتظر بالخارج حتى يتم نقلك الى ثلاجة المستشفى او ربما كان يريد منى ان أصعد الى أي غرفة من غرف البنات..لا أعرف و لا اهتم!

 يقولون ان كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر الا الحزن فهو يبدأ كبيرا ثم يصغر.. الا حزني عليك فهو بدأ صغيرا ثم كبر حتى أصبح أكبر من الحياة نفسها
سأنام انا و محمد على الاريكة الملاصقة لسرير ملك فى غرفة المستشفى.. لا أعتقد اننى استسلمت للنوم فبعد التأكد عشرات المرات من ميعاد الغسل شغلني هاجس ان يغسلوك بدوني بدافع خوفهم علي و على حملي الذى لم يكن قد أكمل بعد شهره الاول.
أستيقظ فأنزل وحدي الى استقبال المستشفى..اسأل عن السيدات المسؤولات عن الغسل فيشير عامل المستشفى الى سيدين منتقبتين فأذهب لهما و اخبرهما بانى مستعدة. أذكر انني استنتجت من صوتهما ان احداهما ربما تكون فى العقد الخامس من عمرها و الاخرى تبدو أصغر كثيرا ربما فى اواخر العشرينات. تخبرني الاكبر سنا بانها علمت بأنني فى بداية حملي ولا تريد منى الدخول خوفا على الجنين من انفعالي. رفضت باصرار و لعنت منى فى سري..حتما هى من اخبرتهم بحملي. كنت على وشك ان أطلب منهما المغادرة لو اصرت السيدة على رأيها و لكنها لم تصر..

رفضت بشدة دخول اى أحد معي.. الحت منى فى الدخول فاصريت على رفضي و فى الاغلب بدأ صوتي يعلو فأذعنت. سأعتذر لها لاحقا و ستخبرني بأنها ما زعلتش.
توقعت ان تتخدر قدماي حينما اراك مرة أخرى تماما كما حدث عندما أخبرتيني منذ حوالي ثماني سنوات بأن نتيجة التحاليل ايجابية و ان الورم طلع خبيث – و هو التشخيص الذى سنكتشف فيما بعد انه خاطئ بعد حوالي الشهر من اللف على الدكاترة "الكبار" و ستحمدي الله لأنك على حد قولك "مش هستحمل بهدلة".
 لم تتخدر قدماي و لم تكن مهمة ثقيلة كما توقعت ولا اعرف هل تعبير "السعادة" ملائم لوصف احساسي وقتها و لكني أخبرت محمد بأنى كنت سعيدة لوجودي معك لدرجة انى تمنيت لو يمتد الغسل لمدة أطول.

أمسك بالقطنة و امسح اصابع قدمك و انا ارتعش..تخبرني السيدة الاكبر سنا بان أضبط الماء كما تحبينه فأخبر نفسي بأنه لاجدوى فالماء بارد ولا استطيع تدفئته..امسح على رأسك و اقبلها عشرات المرات..امسك بيدك و اخبرك بأن "ما تخافيش" و بأني هاخد بالى من البنات و اجد نفسي اتمتم بأن "انا هنا" و ان كنت لا اعلم ان كنت تشعرين بوجودي من الاساس. اسكب الماء فتخبرني الاكبر سنا باننى شجاعة و بانك "باين عليكي كنتي  ست جدعة" فلا اجيب.. أشعر برغبة قوية فى صفعها لأنها تتحدث عنك بصيغة الماضي.. ستتكرر بعدها التشبيهات فتقول جدتي اننى مجاملة زيك و تقول صديقاتك اللائى جئن لزيارتي و رؤية سليم بأني شبهك و ستخبرني عمتي و جدتي الاخرى بأني موسوسة بالنضافة "زي أمك" سأفرح بيني و بين نفسي و لن أعلق.

 ستخبرني "سيدة الغسل"  بانها طبيبة و ان الكدمة الزرقاء بجوار رقبتك هى التى ادت الى الوفاة..سألتها هل تألمت فأجابت ب"لا"..اقنع نفسي بهذه الاجابة.. تعطينى قالب المسك و تطلب منى بأن امر به على الكفن فأفعل..اراك تبتسمين فأكذب نفسي حتى أجد الاصغر سنا و التى لم تتحدث الا بكلمات مقتضبة طوال مدة الغسل تقول "دي مبتسمة"..ستظل رائحة المسك فى يدي حتى المساء و سأظل اشمها كلما قربت يدي من انفي حتى أموت..

يطلب منا عامل المستشفى ان ننهى الغسل سريعا لان هناك "حالة" اخرى اهلها ينتظرون بالخارج فننهيه و اخرج بوجه بارد لأخبر محمد و منى بان يدخلوا.. دخلوا و قبلوا وجنتك ثم خرجنا جميعا.. أقول لنورا أنى مش عارفة انا ازاي عرفت اعمل كدا..لاحقا سأعطي كيس ملابسك المبللة بالدماء لعمتي و اطلب منها ان ترميها..ستنتحب و تعطيها لتانت أمل التى كانت ترتكن على جدار المستشفى بوجه شاحب و عينان تتجنبان النظر لي. سأجد بعدها فردة حذائك..لا أتذكر من اعطاها لي..أقرر الاحتفاظ بها ولا أخبر البنات عنها.. سابقيها بين ملابسي حتى أموت و اتشممها من وقت الى اخر علني اجد رائحتك بها..

سأصر على الذهاب للدفنة و سيطلب مني عمرو أن ابقى فى المستشفى فأرفض باستماتة..أجد نفسي الست الوحيدة وسط عشرات الرجالة داخل المدفن..فى الاغلب منعهن عمرو من الدخول..ابقى بجوارك حتى تغيبي عن نظري..يحملك عمرو و محمد و عمال المدفن الى الاسفل اسأل محمد عن شكل المكان فيعجز عن وصفه بالدقة التى احتاجها فأغضب و أنهى الحوار..أحدهم يقبل رأسي فأعرف انه همام صديق عمرو منذ الطفولة فافتكر المقلب اللى عملتيه معاهم فى أشرف صاحبهم..كنتي طفلة عايزة بس تفضل مبسوطة يا أمي..

يقولون ان كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر الا الحزن فهو يبدأ كبيرا ثم يصغر.. الا حزني عليك فهو بدأ صغيرا ثم كبر حتى أصبح أكبر من الحياة نفسها
حينما خرجت من غرفة الغسل وجدت عائلة مسيحية و سيدة فى منتصف العمر تبكي و تلطم وجهها..سأعرف بعدها بدقائق انها فقدت ابنها الشاب فى نفس اليوم..ستصرخ و تكلم الله و تلومه..ستخبره بانها فعلت كما أمر و ربت ابنها احسن تربية و طلعته ولد صالح بيغير منه كل شباب العيلة..ستسأله ليه خدته مني..سيخبرها من حولها بان تسكت و سيتمتم من حولي بأن لا حول ولا قوة الا بالله. اما انا فكنت أتمتم بأن سيبوها فى حالها..فأنا اشعر بها تماما و لولا اننى لا استطيع الصراخ لشاركتها فيما تفعل..اردت بشدة ان اذهب اليها و اضم رأسها الى صدري و اخبرها بانني اشعر بها أكثر مما تتخيل لكنى لم أفعل..

ستخبرني منى بعدها ان تانت سامية لم تلتفت الى الصلبان التى كانت تزين صدور النساء ولا اسماء افراد العائلة من "ايفون" و "بيتر" و "جورج" و انها جهزت نسخة من الاذكار و اخرى من الادعية لتهادي بهما السيدة لولا انهم لحقوها في أخر لحظة!

يقولون ان كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر الا الحزن فهو يبدأ كبيرا ثم يصغر.. الا حزني عليك فهو بدأ صغيرا ثم كبر حتى أصبح أكبر من الحياة نفسها
سأختفي مسرعة من المدفن و سأتجنب النظر فى عيون من أتوا ليودعوكي..سألمح تانت هدى المسيحية التى زينت المدفن بالصبار الموضوع فى اناء من الرخام مكتوب عليه "الفاتحة على روح الغالية جيهان" و طبعت عشرات النسخ من القران كصدقة جارية على روحك. كما لمحت المهندس وائل مهندس الكومبيوتر و تامر المحاسب..موظفين الشركة التى استقلت منها منذ عشرات السنوات و شيماء موظفة البنك اللى بتتعاملي معاه و هانيا مرات رائد صاحب عمرو و غيرهم من غير المقربين..استعجب من سرعة معرفتهم بالخبر و قدرتهم على اللحاق بصلاة الجنازة و الدفنة و اصرارهم على الحضور ولا أجد اجابة غير  انه رضا من الله على اللى بيحبب فيه خلقه..

يقولون ان كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر الا الحزن فهو يبدأ كبيرا ثم يصغر.. الا حزني عليك فهو بدأ صغيرا ثم كبر حتى أصبح أكبر من الحياة نفسها

سأتذكر و نحن فى سيارة الاسعاف بعد الحادثة بحوالي الأسبوع اللحم الذى طلبته منك فأسأل عنه ملك و أنا بحاول أضحك فتخبرني بأنك كنتى محضراه و جايباهولي معاكي و تضحك و تقولي زمان العرب بيتعشوا بيه فى وادي النطرون فأخرج من الاسعاف و اختار مكان بعيد نسبيا و ابكي و يسألني محمد مالك فاخبره بان ماما كانت عملالي فخدة و رز بالخلطة. اتذكر المشهد الذى يبدو كوميديا و أحتفظ لنفسي بتخيلي لك و انت فى المطبخ لساعات طويلة قبلها بيوم عشان عشان تحضري الاكلة اللى كان نفسي فيها و تخففي عنى اكتئابي..أفكر فى ضهرك اللى دايما بيوجعك و أقول لنفسي ارتاحت من وجع الضهر..

يقولون ان كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر الا الحزن فهو يبدأ كبيرا ثم يصغر.. الا حزني عليك فهو بدأ صغيرا ثم كبر حتى أصبح أكبر من الحياة نفسها
سأدخل في نوبة اكتئاب شديدة تستمر معي طوال فترة الحمل..سيحتملني محمد بتفهم احيانا و باحساس بالعجز احيانا اخرى..سيربت على كتفي و يقبل رأسي و يكلمني احيانا.. و سيستيقظ على صوت بكائي فيأخذني في حضنه و يصمت فى أحيان أخرى..سيفقد صبره لثواني ثم يعتذر و كأنه أجرم في حقى.. سيطلب مني ان ترى أمه الملابس التى احضرناها لسليم فأبكي و يتفهم هو بحب شديد و يرجع فى كلامه و يعتذر.. فهو كما عرفتيه يا أمي محبا حنونا متفهما.. سيأتي بعدها عيد الأم و سأكون نائمة فى غرفتنا اثناء مشاهدته للتليفزيون فى الغرفة المجاورة و سيعلو صوت فايزة أحمد و هي تغني "ست الحبايب" و سيخفض هو صوت التليفزيون حتى لا يؤذى مشاعري..لن أخبره أبدا بأني سمعتها و لن أشكره على خوفه على مشاعرى الى هذه الدرجة كما لن أخبره بأن حزني عليك أكبر من ان تؤثر فيه أغنية أو يزيد منه يوما مائعا تحتفل فيه كل الأمهات دون اى شيء مميز.

سأتحجج بالتواجد مع البنات فى المستشفى حتى لا أحضر العزاء و أسمع كلمات جوفاء لا معنى لها.. و سأستمر فى الحديث عنك بالفعل المضارع و أغضب كلما سمعت أحدهم يتبع اسمك ب"الله يرحمها" أو بالافعال الماضية..و سأفهم أخيرا لماذا ترفض جدتي استخدام كلمات  "اتوفى" و "مات" حينما تخبرني عن جدي و استخدامها الدائم لتعبير "جدك لما راح"..و سأغضب أيضا عندما أشتكي لعمرو من برودة ماء الغسل فى المستشفى فيخبرني بأن معلش هى مش حاسة بحاجة و لكنى لن أظهر له غضبي..

 سيفاجئنى محمد برحلة الى لبنان علني أخرج من هذه الحالة فأعود اليها بمجرد وصولنا الى مطار القاهرة دون أن تتصلي بي لأخبرك بأننا لسه واصلين فتضحكي فأتهكم قائلة "قلب الأم و كدا" فتقوليلي "بكرة تعرفي" تماما كما كنتي تقولين جملتك الشهيرة "مش هتعرفوا قيمتي غير لما أموت" و كنا نضحك و نطلب منك ان تبطلي دراما .. أنا عرفت على فكرة..كلنا عرفنا..

يقولون ان كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر الا الحزن فهو يبدأ كبيرا ثم يصغر.. الا حزني عليك فهو بدأ صغيرا ثم كبر حتى أصبح أكبر من الحياة نفسها
أنهم يبتذلون الموت يا أمي..يموت أحدهم فتجد أبنه أو حفيده يكتب عنه فى "ستيتوس" على الفيسبوك ملحقا بها مكان صلاة الجنازة و العزاء..حتى الفقد و النعي و الموت أصبحوا "اونلاين"..لم أفعل هذا و لن أفعله.. تخيلي يا أمي ان احدى صديقاتي اتصلت بي لتتأكد من الخبر و أخبرتني انها كذبت نفسها حينما دخلت على بروفايلي و لم تجد شيئا!! لا تقلقي فأنا لن أكتب عن حزني فى ستيتوس و لن أدعي لك على الفيسبوك فلن أسمح بهذا القدر من الاهانة لي أو لك.. و ستكون هذه هي أول و أخر مرة أحاول الكتابة فيها عنك..

يقولون ان كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر الا الحزن فهو يبدأ كبيرا ثم يصغر.. الا حزني عليك فهو بدأ صغيرا ثم كبر حتى أصبح أكبر من الحياة نفسها
يخبرني مديري فى العمل بأني قوية فهو لا يعلم شيئا عن نوعية الأسئلة التي دارت و لا تزال فى رأسي و التى لا تدل أبدا على اي نوع من قوة الشخصية.. من نوعية لماذا هى و لماذا الأن؟ لماذا لم أكن معهم؟ لماذا لم ينتظر الموت ان تنهي زيارتها لي فأكون على الاقل قد تمتعت برؤيتها فى أيامها الأخيرة؟ لماذا لم ترى حفيدها الذى فرحت به قبل ان تراه؟ لماذا لم تختار اسمه و ملابسه معي مثل كل الجدات؟ لماذا لم تكن بجواري فى المستشفى؟ لماذا لم تجبني عن الاف الاسئلة التى كانت تدور برأسي عن الحمل و الولادة؟  يخبرني عقلي بأني كنت سأرفض نصائحها كما رفضت نصائح الجميع و بأنني كنت همشي بدماغي فيخبرني قلبي بالعكس. لماذا لم تبق حتى أغيظها بكلمة يا تيتة و أخبرها بأنها كانت بتهرب من كلمة "ماما" اهى بقت جدة  فتغضب كالاطفال و تقولي "و لو انا لسه صغيرة و موتي بغيظك".

لماذا لا يحول الله الموتى من حالتهم المادية الى حالة اخرى غير مادية تسمح لاهلهم برؤيتهم و الحديث معهم ولا تسمح بلمسهم مثلا؟ ما هذه القسوة التى تجعلك تتحدث مع من تحب فى يوم ثم تستيقظ اليوم التالي لتجده غير موجود..انمحى كما تمحو الاستيكة الكلمات المكتوبة بالرصاص فتفقدها تاريخها و ماديتها كأنها لم تكن موجودة قط؟

 يخبرني الله بأنك بخير أو أتوهم بذلك..أعرف أخيرا اجابة سؤالى عن سبب صيامك ذلك اليوم و أنت التى كان يشق عليك الصيام فى غير أيام رمضان..فادعو الله أن يلهمني الصبر ولا أصبر..فأحاول ان أبحث عن اى جانب مشرق و أجده: فمهما حدث و ايا كان من سأفقده فلن أشعر أبدا بكل هذا الحزن مرة أخرى على ايا من كان يا أمي و سيبقى هذا المكان فى قلبي مفتتا وخاليا حتى نلتقي..لن تملأه ضحكات سليم ولا حنان محمد..سيبقى خاليا حزينا كئيبا.. فاستسلم وادعو الله بأن يسعد روحك حتى نلتقي .. و أنتظر

السبت، 4 أكتوبر 2014

سنة تانية..




بيقولوا ان السنة الأولى هى السنة الأصعب فى الزواج فالخلافات فيها أكتر من "الاتفاقات"..اما عندنا سنة أولى جواز كانت الأحلى..حب مطلق..خلافات محدودة.. بيتنا الصغير بتفاصيله الحلوة اللى اتشاركنا فى كل فتفوتة فيها.. سفر و سهر..ضحك و لعب و جد و حب و كل فعل فيهم بنعمله بنفس الحماس و البهجة

أما سنة تانية بقى فحدث ولا حرج..كم غير طبيعي من الأحداث و المنعطفات التاريخية..المحزن و المفاجئ و الصادم ..كل حاجة فيهم كانت عايزة سنة لوحدها..و كل حدث منهم كفيل بأنه يفقد أى علاقة توازنها..عدينا بحفر غويطة و كتير كنت بشوف نهايات تعيسة لكل حفرة فيهم..بس عدينا من فوقيهم و ادينالهم ضهرنا و طلعنا لساننا كمان

صعوبة السنة التانية فى تطفل الروتين .. فى ان مبقاش فيه أول مرة فى كل حاجة عشان أكتبها فى المكان اللى بنكتب فى تواريخ أحداثنا الجديدة.. في أن اختراع طرق جديدة للاحتفال بتفاصيلنا الصغيرة بيزيد صعوبة .. فى ان الحياة بتاخدنا من بعض بسخافاتها و مطباتها
بس فى كل حفرة كنت بحاول أسندك و كنت دايما بتسندني..بالمعني الحرفي للكلمة..من قلبك بجد و بطرق عمرها ما كانت تخطر فى بالي..دايما كنت الأعقل و الأكبر دماغا (بعيدا عن كوني الأذكى عشان دا شيء مفروغ منه زي ما كلنا عارفين)..كل ما كنت أقول دي أصعب حاجة كان يفاجئنا الأصعب..و كنا بنمسك ايد بعض و نعدي..او ندي ضهرنا لبعض و نتقمص و كل واحد يعدي لوحده..المهم اننا كنا بنعدي

أنا و أنت فخفخينا محترمة..حاجات ملهاش علاقة ببعض بس لما بتتحط على بعض بتطلع حاجة حلوة.. أنا بعندي و طفولتي و قلقي و نظامي و حنتفتي و جناني المستمر.. و أنت بهدوئك و بعد نظرك و كرهك للنظام و احتوائك ليا.. أنا بلساني الطويل و بالساركازم الدائم و أنت بدبلوماسيتك و بحنانك على كل الناس.. أنا بحبي ليك و أنت بضحكتك الحلوة دي..بتميل كفة ميزاننا كتير بس فى الاخر بتظبط

السنة دي هنفتكر مصلحة الكيميا و يوم المركب الصغيرة اللى اتفقت فيها مع الموج انه يخوفني عشان تمسك ايدي لأول مرة و هنفتكر "أنت شايفني قفلت فى وشك" و السمكتين البرتقاني .. هنفتكر يوم الهرم لما الحصان بتاعك فضل يجري ورا الفرسة اللى كنت ركباها و يعاكسها.. و هفتكر مكالمتك الطويلة يوم فرح صاحبتي عشان مش عايز حد غيرك يكلمني.. هفتكر طفولتك و انت بتسألني مين قاعد جنبك فى السينما.. فيلم رسائل البحر و تمشية من كليوباترا لرشدي اللى ماتقالش فيها كان أكتر بكتير من اللى اتقال.. خناقتنا الكبيرة الكوميدية جدا و الجبس البينك اللى قعدتلي بيه اسبوعين..

السنة دي هنفتح علبة ذكرياتنا و هنتفرج سوا على تذاكر السينما اللى عليها اسماء و تواريخ الافلام اللى رحناها زمان..و جواباتك ليا و كتاباتي عنك.. و صورنا القديمة و سنووايت.. كتب التلوين و تذكرة الاوبرا فى اليوم بتاعنا.. تذاكر القطر اللى كنت بتقعد فيه أكتر ما بتقعد معايا و مع ذلك مكنتش بتفوت فرصة انك تيجي.. صورة برج القاهرة و الحنطور و منديل كتب الكتاب.. هنزود عليهم دبوس كان مشبوك فى سرة بيبي عنده دلوقتي أربع شهور و أسورة مستشفی عليها اسمي و اسمه..و هنكمل :)


الأحد، 28 سبتمبر 2014

ما بعد سليم..





لا لم أكن من هؤلاء الأمهات اللائي طرن فرحا عندما شعروا بتحرك انسان صغير فى طريقه للتكوين بداخلهن بل على العكس شعرت بفزع شديد من كل شيء..منك و من الحمل و من المسؤولية و العمل و الاجازة و حتى من الولادة بالرغم من كوني فى شهر الحمل الأول و يفصل بيني و بين يوم قدومك حوالي ثمانية أشهر كاملة!

حط نفسك مكاني..تخيل واحدة ملهاش فى الاطفال و اخر اهتماماتها لما تلاقى طفل انها تفضل تقوله "كوتي كوتي" و "يا خلاسي" زي البنات الكيوت..ولا عندها اى تطلع انها تتصور مع بيبي مولود و تحط الصورة على الانستاجرام مصحوبة ب"هاشتاج" cutness overload. فأمك يا سليم دمها تقيل جدا مع الأطفال و دي حقيقة لازم تعرفها..و عشان العب مع اى طفل فى مواصفات معينة لازم تكون موجودة فيه أولها النضافة و مش أخرها انها تكون بنت!

بعد اسبوع تقريبا من معرفتنا بقدومك كان هذا الحادث المؤلم الذى قلب حياتي رأسا على عقب..كان اول رد فعل لي اننى لا اريد هذا الطفل..لا أعرف لماذا لمتك انت على شيء لا يخصك بأي شكل ربما لأني اعرف انني لن أجد من الومه على شيء كهذا. بعدها سأندم على تفكيري هذا و سأحلم بالبنت التى سأنجبها و التى ستشبهني فى الطباع و الدماغ..سترتدي الوردي و الفيونكات و ستكون لها شخصيتها المستقلة القوية..ستخبز معي الكيك و ستلعب معي بالدقيق زي أنغام فى كليب عمري معاك..

"انتي عارفة انك حامل فى بيبي بوي؟" قالها الطبيب بمنتهى اللامبالاة حينها فقط ايقنت ان القدر يعاندني و ان الله لا يريد ان يحقق لى ايا من احلامي. بكيت كثيرا و تألمت على ابنتي التى لم انجبها تماما كأن حملي هذا هو أخر فرصة لى للأنجاب.

طوال ثمانية أشهر أصبت فيهم بقدر لا بأس به من اكتئاب الحمل المصحوب بالحزن لاسباب اخرى لا يد لك فيها..لم أنتظر قدومك و لم أشعر بشغف الأمهات الجدد و أنا أشتري حاجياتك..فقد كنت أقوم بمهمة أخرى ضمن مهامي الثقيلة..جمعت الاشياء التى ستحتاجها فى عامك الاول باحترافية من انجبت تسع اطفال و تنتظر العاشر..لم انس شيئا كبيرا كان او صغيرا وضعت خطة الولادة بدقة: ولادة قيصرية ببنج نصفي و اتفقت مع الطبيب على كل ما اريد.

و مرة اخرى عاندني القدر و لم يتحمل ظهري ابرة "الابيديورال" او البنج النصفي بعد عدة محاولات المتنى كثيرا و افقدت أبيك اتزانه فى غرفة العمليات. "مفيش حل غير البنج الكلي" قالها الطبيب و بدأت فى التوتر فهذا اخر ما كنت احتاجه!
 فى غرفة الافاقة استرديت وعيي كاملا فى لحظة لأجد أبيك بجواري يخبرني بقدومك سالما معافا بدأت فى تحريك قدمي لأتأكد من قدرتي على الاحساس بها بعد الالام الشديدة التى شعرت بها أثناء محاولات الطبيب اعطائي البنج النصفي..

حينما رأيتك لأول مرة لم أشعر بأي شيء..لا الامومة ركبتني ولا حسيت انك أهم واحد فى حياتى..لا أعرف حقا هل تبالغ الأمهات لهذه الدرجة أم هل يشتغلون نفسهم؟! كان أول شعور يتملكنى هو انى disconnected عن الحدث..فأنا دخلت غرفة العمليات بطفل بداخلي و خرجت بدونه..لم اره و هو يخرج مني و لم اسمع اولى صرخاته خارج رحمي. "مين دا؟" كان السؤال الذى سألته ضاحكة لأبي حينما دخل ليطمئن علي أول مرة بعد قدومك. سأشاهد بعدها لحظة خروجك من داخلي التى صورها أبيك و سأغالب دموعي فى كل مرة لسبب لا اعرفه..

سيستمر شعوري بأني خارج الحدث لبقية اليوم تقريبا..سأتحامل على نفسي لاقف و امشي بعد العملية بساعات قليلة فاتسائل مرة اخرى عن سر تهويل الامهات لهذه اللحظة..فالجرح مؤلم بالتأكيد لكنه ألم محتمل جدا.

لاحقا فى هذا اليوم سيأتون بك الي و سيطلبوا مني أن أحاول ارضاعك..نسيت أن أخبرك اننى كنت قد قررت ان ارضعك رضاعة طبيعية لأن "دا الصح" مش لأني عندي اى نوع من المشاعر المتدفقة اللى بيتكلموا عنها الامهات. جبتك لي الممرضة و خدتك فى حضني لتاني مرة..طلبت منهم الخروج و قررت اطبق عليك اللى قريته طول التسع شهور اللى فاتوا..قربتك مني و شفتك و انت بتفتح بقك و بتعافر عشان تاكل و بتحط ايدك عليا فى استسلام تام..ساعتها بس حسيت ان انا و انت ملزوقين فى بعض..حاجة كدا ما تتوصفش..انت محتاج حاجة مش موجودة غير عندي انا عشان أنا أمك.."أمك"!
 و كانت هي دي اول لحظة فارقة..

ستستمر لحظاتنا الخاصة جدا التى تنكمش فيها داخل حضني لتأكل بفطرة عجيبة.. اربت على رأسك برفق فتشعر بأمان تام و تغلق عينيك الحلوة و يستمر فمك الصغير فى الحركة..حتى الان تكررت هذه اللحظة أكثر من ثمانمائة مرة و في كل مرة أشعر بأنك امتداد لجسدي..و كأنك لم تنفصل عني بعد!

أما الان و بعد مرور أول اربعة أشهر على يوم مولدك فأنا لا أتخيل حياتي بدونك..لا مش عشان هم بيقولوها كدا..دا احساسي فعلا.. ضحكتك الصباحية حينما تراني لأول مرة بعد ان تفتح عينيك الصغيرتين..هدوئك بمجرد أن تسمع صوتي..نظرتك لي و انت فى حضني..ضحكتك الجديدة اللى بصوت دي..أشياء عصية جدا على الفهم و الاستيعاب..كتلة صغيرة من الحب و المشاعر تتضاعف فى اليوم الواحد مائة مرة..حقيقي غيرة أبيك من حبي لك لها اساس قوي بس خليها بيني و بينك و ما تقولوش 

أصبحت أفعل كل ما كنت أسخر منه من قبل..أتابع وزنك فى شغف و أشعر بالفخر من قدرتي على الصمود أمام متاعب الرضاعة الطبيعية.. أحكي للناس عن "الحقوا بيمسك رجله" "شوفوا بيرفع ايده ازاي" و غيرها و غيرها من الانبهارات بحركاتك الصغيرة..

يشطح عقلي و يتخيل أشياء عجيبة فأتخيل مرة ان هناك من سيسرق السيارة حينما ينزل منها أبيك و سيخطفنا أنا و أنت فأقرر بمنتهى التلقائية اننى سألقى بكرسيك و انت بداخله من الباب ثم سأقفذ فوقك فورا لأحميك من السيارات .. أتخيل مرة أخرى أن النجفة ستسقط عليك..فأقرر بنفس التلقائية أنني سأميل بجسدي فوقك لتصطدم بي انا لكنى لن أميل عليك بقوة حتى لا يؤلمك ثقل جسدي.. تكح قليلا فيشطح خيالي مرة اخرى..هل قلبه بخير؟ هل هناك عملية اسمها نقل قلب؟ هل سينفعك قلبي؟ كنت اتعجب احيانا من الامهات اللائي يتبرعن بنقل اجزاء من اجسامهم لابن مريض او ابنة على فراش الموت..الا تترددن؟ كيف تقدمن على هذه الخطوة؟ أما الان فلا شيء يدعو للعجب..على العكس!

 تحاوطني الخيالات المريضة..و فى كل مرة أقرر الطريقة التى سأحميك بها ولا أهتم لجزء من الثانية بسلامتي الشخصية. هكذا..دون لحظة تفكير أجدني أفضل حياتك على حياتي تفضيلا لا يشوبه اي تردد بعد 120 يوم بس!!

أحيانا أشعر بأنى أحتاج اليك أكثر مما تحتاج الي..هذا الحضن الدافئ..تلك السكينة التامة و الدعة..هذا الحب الغير مشروط..هذا الامان التام و انت نائم فى حضني..كل هذا يشعرني باحتياجي اليك يا صغيري أكثر كثيرا مما تحتاج الي..

قررت أن أكتب لك الان تحديدا..قبل شهرين بالتمام من أن تبدأ فى الأكل و الاعتماد على غيري فى تغذيتك.. مشاعري متناقضة ما بين الفرحة بأني أخيرا سأحصل على القليل من الراحة و بين الغيرة من أن لحظاتنا الخاصة جدا التى نقضيها سويا ستقل تدريجيا حتى ينتهي عامك الاول فتختفي تماما..هل نسيت ان اخبرك انني بالامس أخبرت والدك بأنني سأبدأ فى حب" سوبر مان" و" بن تن" و "سبايدر مان" عشان خاطر عيونك..شقلبتني يا سليم!

و فى وسط تجربة الأمومة المذهلة استوقفني أن بطل كليب عمري معاك كان أصلا ولد..دا غير انى اصلا ما بعرفش أعمل كيك !